سورة الفرقان - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}.
يقول تعالى حامدا نفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 1- 3] وقال هاهنا: {تَبَارَكَ} وهو تفاعَلَ من البركة المستقرة الدائمة الثابتة {الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ} نزل: فَعَّل، من التكرر، والتكثر، كما قال: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136]؛ لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة، والقرآن نزل مُنَجَّماً مُفَرَّقاً مُفَصَّلا آيات بعد آيات، وأحكاما بعد أحكام، وسوراً بعد سُوَر، وهذا أشد وأبلغ، وأشد اعتناءً بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32، 33]. ولهذا سماه هاهنا الفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام.
وقوله: {عَلَى عَبْدِهِ}: هذه صفة مدح وثناء؛ لأنه أضافه إلى عبوديته، كما وصفه بها في أشرف أحواله، وهي ليلة الإسراء، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} [الإسراء: 1]، وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]، وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه، فقال {تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}.
وقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} أي: إنما خصَّه بهذا الكتاب العظيم المبين المفصل المحكم الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، الذي جعله فرقانا عظيما- إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء، ويستقل على الغبراء، كما قال- صلوات الله وسلامه عليه- «بعثت إلى الأحمر والأسود». وقال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي»، فذكر منهن: أنه «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة»، وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف: 158] أي: الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض، الذي يقول للشيء كن فيكون، وهو الذي يحيي ويميت، وهكذا قال هاهنا: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}، فَنزه نفسه عن الولد، وعن الشريك.
ثم أخبر أنه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي: كل شيء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره وتسخيره، وتدبيره وتقديره.


{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا (3)}
يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، الخالق لكل شيء، المالك لأزمَّة الأمور، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ومع هذا عَبَدُوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة، بل هم مخلوقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فكيف يملكون لعابديهم؟ {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} أي: ليس لهم من ذلك شيء، بل ذلك مرجعه كله إلى الله عز وجل، الذي هو يحيي ويميت، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم، {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13، 14]، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} [الصافات: 19]، {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53]. فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ولا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو الذي لا ولد له ولا والد، ولا عديل ولا نديد ولا وزير ولا نظير، بل هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.


{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا (5) قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)}
يقول تعالى مخبرًا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار، في قولهم عن القرآن: {إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ}: أي: كذب، {افْتَرَاهُ} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أي: واستعان على جمعه بقوم آخرين. قال الله تعالى: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} أي: فقد افتروا هم قولا باطلا هم يعلمون أنه باطل، ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون.
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} يعنون: كتب الأوائل استنسخها، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} أي: تقرأ عليه {بُكْرَةً وَأَصِيلا} أي: في أول النهار وآخره.
وهذا الكلام- لسخافته وكذبه وبهْته منهم- كُلّ أحد يعلم بطلانه، فإنه قد عُلم بالتواتر وبالضرورة: أن محمداً رسول الله لم يكن يعاني شيئا من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة، وهم يعرفون مدخله ومخرجه، وصدقه، وبره وأمانته ونزاهته من الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة، حتى إنهم لم يكونوا يسمونه في صغره إلى أن بُعِث إلا الأمين، لما يعلمون من صدقه وبره. فلما أكرمه الله بما أكرمه به، نصبوا له العداوة، وَرَموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها، وحاروا ماذا يقذفونه به، فتارة من إفكهم يقولون: ساحر، وتارة يقولون: شاعر، وتارة يقولون: مجنون، وتارة يقولون: كذاب، قال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} [الإسراء: 48].
وقال تعالى في جواب ما عاندوا هاهنا وافتروا: {قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أي: أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين إخباراً حقاً صدقاً مطابقاً للواقع في الخارج، ماضيا ومستقبلا {أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} أي: الله الذي يعلم غيب السموات والأرض، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}: دعاء لهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه. فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتهم وكفرهم وعنادهم، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا، يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 73- 74]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]. قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة سبحانه وتعالى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8